ابتكار مستقبلنا

ابتكار مستقبلنا

لا ينبع سخطنا على الانتهاكات التي تمارس على الطبيعة من كونها ذات قيمة جوهرية ذاتية، بل من اهتمام الإسلام بتأمين مسكن صحي آمن للإنسان عساه يتحرر من القيود المادية التي تستعبده. أما الغرب فيعاني تعصبين اثنين: أحدهما يتفانى في تدمير الطبيعة، والآخر يعبدها من دون الله، ويعتبرها قيمة مطلقة بدل أن يكتفي بمصادقتها والدفاع عنها كما يفعل "الخضر". فالمحيط الحيوي عند أنصار علم البيئة العميق معبدٌ آهل بأصنام وقيم عليا تمثلها الكائنات الحية من حيوانات وأزهار ونباتات. وهذا المذهب الصنمي ينصب الطبيعة والأحياء سلطات معيارية، فيقلب النظام الذي أراده الله حين خلق كل نوع حي وسخره للإنسان الذي أوجب عليه أن يشكر الخالق المنعم فيعتدل في استعمال ما تفضل به عليه دون إفراط ولا مغالاة وثنية.
يجب أن لا تميل علاقة الإنسان بالطبيعة -مثلها في ذلك مثل علاقته بالمال- إلى المبالغة في التملك ولا إلى مذهب الجمالية الطبيعية، وإلا مسه الحيف إن هو قلب الأدوار فحول الطبيعة إلى معبود، حرم الإنسان من التمتع الكامل بنعم الله عز وجل. إن السكينة البدنية والصفاء الخلقي والطمأنينة الروحية طِلْبَةُ الوجود البشري في الدنيا، ولذا يجب أن تسخر كل الجهود لتوفيرها، بضمان البقاء البيولوجي أولا. وهو ما لا يتم إلا بالتنظيم الاقتصادي والسياسي الجيد للمجتمع.
لكن علاقة الفرد الحديث والمجتمعات الحديثة بالطبيعة تركز على النفعية المتمتعة، فلا تبتغي المؤسسات السياسية والاقتصادية الحديثة ولا القوانين الحديثة إلا الراحة المادية للإنسان، فلا تعرف ولا تعترف إلا ببعده البيولوجي.
لِذلك يجب أن يكون لمستقبل المجتمع الإسلامي الذي علينا أن نبتكره استراتيجية مختلفة تكيف وسائل الحداثة لأهداف الإسلام المتميزة. ونحن نعلم أن النفوذ السياسيَّ هو الذي يحدد بنسبة غالبة مستقبل أي مجتمع: اقتصاده وتطوره وقدرته على بلوغ غاياته والتغلب على انحرافات الواقع. لأن السياسة -بما تملك من سلطة- قادرة على التأثير في كل مظاهر الحياة العامة والخاصة.
يجب إذن أن تلتحم السياسة الاجتماعية والصناعية والزراعية والتربوية والإعلامية بالبحث العلمي وبخطط التنمية والاستثمار، لتندرج في استراتيجية شاملة تحدد الأولويات وتقيس الحصيلة بالمعايير الأساسية للفعالية المقترنة بطمأنينة الإنسان الروحية، طمأنينة المومن بالله واليوم الآخر، تخدُم راحتُه في الدنيا هَمَّهُ الأخروي.
أيوب بازولــــــيــني
لابد للانطلاقة الجديدة -إذا أرادت أن تتم تحت لواء الإسلام- أن تبني تصورا جديداً للحكم وتنظيماً جديداً للسياسة. لابد من نظام جديد يلائم الطموحات الجديدة. لابد أن يرحل المجتمع التقليدي المكون من ذرات حيَّدتها قبضة الحكم المطلق المتقمص بذلة الديمقراطية لتحل محله أمة حية مشاركة. وهذا التحرر والانبعاث لابد أن يسنده الحكم الإسلامي.
إن الحداثة المؤَليِكة بالغة التعقد، لأنها تستلهم إيديولوجيات مختلفة لا يربط بينها حبل من حب الناس، أو الإخلاص لله، أو هم إقرار العدل في الأرض. حداثة تحتمي بظلها نخبنا المغربة، محاولة عبثا أن تكون مجتمعا مدنيا (صرعَة هذه الأيام). لكنها لا تنجح إلا في تعميق درجة التشرذم السياسي وتنفير الشعب الذي يدرك أكثر من هؤلاء السادة والسيدات أبعاد الرهان السياسي والأدوار الموزعة على اللاعبين.
لتحقيق الانطلاقة الجديدة وتطبيق السياسة الجديدة لابد من نسج رباط اجتماعي جديد يتجسد فيه الإيمان بالله والأخوة في الله. لابد من منح الفرصة للصدق ليعوض الكذب، والبحث في حنايا النساء والرجال المتطهرين جسداً وروحاً، الساجدين لله خمس مرات في اليوم، عن صفاء النية وشفافية القلب بدل السياسات الكثيفة المعتمة والنوايا الماكرة.
لكن هذا لا يمنع من تثبيت الرجل المناسب في المكان المناسب إذا صحت توبة الجميع وصلحت نوايا الجميع. لأن الإسلام ليس مذهبا انتقاميا غايته التشفي من أعداء الأمس. يجب إذن أن تمد الأيدي إلى كل الذين كانوا يبحثون عن معنى لحياتهم، سواء تعلقوا بروح حضارية بالية، أو بوطنية عتيقة، أو ثقافة غربية مُسكرة، حتى يبرهنوا عملياً عن تبرئهم من نظام بائد متجاوز، وعن براءتهم من الوصولية والمصلحية حين قرروا تغيير وجهتهم.
إن الله عز وجل يفرح بالتوبة الحق، ويوجب على كل مسلم أن يبتهج باستقبال التائب. لهذا لن تدشن الانطلاقة الجديدة للحكومة الإسلامية بطرد الأطُر الاقتصادية والإدارية للحكم الجائر، ولا بالإجلاء التام للمستخدمين السياسيين والإداريين والثقافيين للحكم البائد ولو كانوا من قبل عبيداً مسلوبي الوعي والإرادة وآلات مأجورة، مشحمة مبرقعة.
يجب ألا نكون أقل حكمة من نلسون مَنْدِلاَ الزعيم الإفريقي الذي حارب ببسالة نظام التمييز العنصري وعانى في السجن ما عانى سبعا وعشرين سنة. هذا الرجل العظيم الذي أصبح حراً وأضحى رئيساً لجمهورية جنوب إفريقيا يقود الآن الأغلبية السوداء في بلده إلى سياسة حكيمة حتى ينسيها عشرة قرون من القهر الذي مارسته الأيدي البيضاء العنصرية. فتح مندِلا عهداً جديداً من المصالحة يتميَّز بالشفافية، ليقف البيض المؤهلون والمتعلمون جنبا إلى جنب مع الأهالي السود، يساهمون في خدمة الأمة، بينما كلفت لجنة "الحقيقة والمصالحة" بالتحقيق في ماضي السفاحين، مغضية الطرف عن صغار المذنبين، كل ذلك حتى يتمكن كل واحد من التكفير عن ماضيه واستئناف عمل صالح يمحو به سيئاتٍ.
لكن تفادي الفخاخ المزروعة في طريق كل من عزم على الانطـلاق دون استئذان دركي العالم محاولةٌ محفوفة بالمخاطر، لولا وعد الله العلي القدير بمباركة خطوات عباده المخلصين. والوعي المتزايد الملاحظ في كل الأرجاء أمارةُ مستقبل قريب وبشارة معركة جديدة : معركة سلمية من أجل السلم.

سترِثُ الحكومة الإسلامية فوضى سياسية ثقافية عليها أن تعالجها بلباقة حتى نتمكن من مواجهة المستقبل، بل من استقباله ونحن مزودون بكل مؤهلاتنا. وبما أن مؤهلنا الأساسي هو العنصر البشري، فلا يمكننا أن نشيد البناء الجديد بالخطب السياسية أو بالقَفْزِ على الحواجز الثقافية التي يقبع خلفها رجال ونساء مستلبون، منهكون، معادون للمشروع  الإسلامي.

منقول عن الكاتب :   عبد السلام ياسين

Share this

Related Posts

Previous
Next Post »